لم أكن اتحسس منبتَ شعرِها المستور خلفَ قرطِها سويعاتٍ قبلَ المغيبِ حتى يشتعل وجهُها خجــلا, و يغدو توردُ خديها مسا ملائكيا للوحـةٍ بديعةٍ حاك فيها شعرُها الذهبي و زرقةُ عينيها مرأى البحرِ تتلاطم أمواجُه تخفي الأفقَ حينا و تعبره حينا إلي أفقٍ من صنعها , تتسابقُ , يتروضُ عنفوانُها و تتهادى , أمام حباتِ الرملِ , تمضي إليها في لهفةٍ تعيدها سيرتَها الأولى , و تفيض عليها من روحها بريقا تكسره جوارحي و صفاءا تمتشقه نفسي , و نقاء يستنزله الإيمانُ أرضا غيرَ ذات نقاءٍ , و يرقي به إلي سماءٍ تهتك العتمةُ أعراضَها .. فلا يزال يفسح لحزمِ الضوءِ أفلاكا حتى تقر عيني , و ترضى نفسي في إباءٍ .. مشهدٌ في عينيها يُزاح عنه حجابُها و الستارُ , فيروح حرا يعبث بالطبيعةِ من حولِ خصرِها , ثم لا يلبث أن يقبل حانيا إلي سكناه يلتذه إلي الأبد , و تتمخض في وهنٍ ذكراه قد أحرقها الماضي , و اكتوى بلهيبها الحالُ , لما وقف الغدُ أمامها يرتعد اجلالا و خضوعا , يرتجف من هولِ كمالِها .. يعلم أنها آتيةٌ لا محالة , تنفد فيه , تغتاله و تجهز عليه , تمتد طولا في أصفادِ الزمانِ , و تترامى عرضا بين الأزقةِ و الطرقاتِ , حتى لتكاد تضحى مزجا فريدا يستلهم من العدمِ ديمومَته و صمتَه المهيبَ , و من الوجود كينونتَه و أصداءَه الصاخبةَ
.. و تمضي وحدها لحظةً سرمديةً تسجــــدُ لفتاتي
لوحةٌ تطل من مأمنِها تصوغ العالمَ من جديد , ترسمه كما رُسِمت , و تلونه كما لُونت , و تنشده نغمةً شاردةً و ألحانا عذراء و تهبه من روح حبيبتي الخلودَ بين مراتع العدمِ كما أوهِبت , تتمرد علي قدرِها الظمآنِ فتناضل لهثا وراءَ أولِ الحقوقِ و أبسطِها , حقِ الحياةِ , و أرقى الشهوات شهوةِ الاشتهاءِ .. لم تبحث قط عن حياةٍ رغدةٍ أو دعةٍ بلهاءٍ تحت مبصرٍ من مادةٍ و سلطانِ , بحثت عن الحياةِ .. الحياةِ المجردة .. الحياة كما تُوهب و تُعاش و تُسلب , لم تشته شيئا قط خلا الاشتهاءِ ذاته , و ما ابدا رغبت قدر ما رغبت الرغبةَ ذاتها .. أراد المرسومُ الأصمُ الاشتهاءَ محاكاةً لمن يشتهون , و الرغبةَ مثل من يرغبون , أحسبُه لم يدرك قط أن سعيه اللامحدودَ نحو عرى الحياةِ قد جاوز من أعياه فرطُ الحريرِ و هو في غفلةٍ عما كساه الحريرُ
ضربت اللوحةُ من تحت حاجبي فتاتي بجذورِها مكنونَ الحياةِ , في مفتتحه و منتهاه تتدلي أطرافُ شعرِها و يتبختر أريجُ عطرِها , لما أضحى الكثيرُ و القليلُ يتعثر في النتوءِ الذي هو قشرةُ الحياةِ و لا يقلب صفحاتِها الملساءَ .. التي هي قشدتُها
لوحةٌ تلملم ألوانَها المبسوطةَ على فراشِ الطبيعةِ , و تجمع أدقَ تفصيلاتِها المبثورةَ في أرجاءِ الكونِ , و تنققح خطوطَها و انحناءَاتها المحمولة على عروشٍ من ياقطين .. و تتجمــدُ في عيني فتاتي , تسكب فيهما فيضَ شوقِها و إشراقةَ روحِ من سري فيه الحبُ مسري الدمِ , و من قطع الدروبَ دهورا إلي العلا , و من ألف البيداءَ يقتفي آثارَ حبيبه فألفته , و من قست عليه الحياةُ فاقتات بالوبالِ , و من نكص به القدرُ و التحف سيفُه الترابَ , و من صمد إيمانُه فألقي السمعَ و هو شهيد. أسترقُ النظرَ إليها فتنكحُها بقسوةٍ عيناي , و أرْقبُ فيهما من الزرقةِ زرقةً , و زرقةً من وراءِ زرقةٍ , كل في أفلاكٍ و دوائر , يسبحُ و إن سكنَ , يترنحُ و إن ثبتَ , يناجيني و إن صمتَ .. دوائرا من الزرقةِ لا تفنى , تضيقُ كلما أوغلت النظرَ إلى غير غايةٍ لها ولا انتهـاء
اغازلُها , مادحا روعةَ الإبحارِ في عينيها , ترفق لمسةُ من الحُمرة ببياضِها الثلجي و شحوبِها الواهنِ , فتنأى بوجهِها الصغيرِ و يختبئُ حياؤها في شوقٍ خلفَ شعرهاِ الذهبي المسترسلِ .. أفيئ شطرَ ما ولت وجهَها فأسرقُ من احمرارِ وجنتيها ما طابت به روحي , و أصيبُ من لوحةِ عينيها ما تاقت إليه نفسي و لاقت به الجنانَ , و قنطتها . تستأنس الأصابعُ بخصلاتِ شعرِها , الذي ما فتئ ينسابُ في رويةٍ من بين أناملي , و يعود يحرس همسَها الخافتَ حتى ألزمه أذنَها و أرقبه ينسدلُ في دلالٍ حول قرطِها و عنقِها
يأخذها طائفٌ من حميةٍ و حنينٍ , تتنهدُ , تنظرُ إليّ و تصمتُ .. دهرا من الصمتِ كمن يقبع خلفَ بابِه ينتظرُ حبيبَه و زائرَه و أنيسَه , بيد أنه يفزع لوقعِ الطرقِ .. تنظرُ إلي فيتهادى جفناها على مهلٍ , و يخلع باطنُهما حجابا شفافا من ندي يستبقي زرقةَ عينيها عذراءً لم تمسسها رجولةٌ كاسرةٌ ولا رغبةٌ قاسرةٌ , و إن امتدت لجسدها الصغيرِ الفائرِ العيونُ الجائعةُ حال طرق المطرُ نافذتَها , و توقفت المخالبُ أمامَ خصرِها تبغي منه ذوبانا يقطر الثلجَ و البردَ في جوفٍ علقت به الرمالُ تحتَ نجمِ الظهيرةِ في وادٍ أجردٍ غير ذي زرعٍ , عـذراءٌ تجد سلواها و مرتواها في صرخةٍ دفينةٍ , طويلةٍ تختنق أسفلَ وابلٍ من ظلماتٍ جرداءٍ , تبلغُ عنانَ السماءَ فتَعْتَدُّها رعدا و برقا , و عبرةً قريبةً حانيةً تسكن منبتَ رموشِها .. تذرفها على طفولةٍ نُهِبت في وضحِ النهارِ , تتعلق بآخر كراماتِها و أعذبِ لحظاتِها ملامُحها الآخاذةُ و قسماتُ وجهِها النوراني , و تخطُّ على جبينِها حلما ضلَّ الطريقَ في لحظةِ أصيلٍ شاردةٍ و حبا وجد ضالتَه بين دفتَي صدرِها الناهدِ , على شيخوخةٍ سِيقَت إليها في موكبٍ قدريٍ حالكٍ , فلا هي دفعتها و نعَِمَت بصباها , و لا نِيلَ من جمالِها قدرَ أنملةٍ , و إنما هي نفحاتٌ من الشجنِ الأبكمِ تلوح من غداةِ السرابِ بمثقالِ حبةٍ من خردلٍ تجتهدُ تفصلُ بين وهنِ فتاتي و حيائِها الوردي , و بين أمواجِها الثائرةِ و بركانٍ أنثويٍ فائرٍ .. عبرة تولد لي و أولد لها , أبصر فيها من تحت الركام صفحاتِ حياتي إذ يجري عليها القلمُ فيغور فيها , يرفع عنها أو لا يرفع وقتما غدت ملأى بالغموض و حروبٍ خضتها وحدي و الورى نيامٌ , و تراجيديا جيوشِ الخلاصِ تأتي على أخضرِ قومي و يابسِنا , و خواطرٍ كان الوجودُ و العدمُ مهدَها الغابرَ و اللحدَ , و رؤى الحريةِ تأتي من بعيد تعيدني في عنفٍ جادةَ الحق و الايمان , و العلم و العقيدة يضربان أيادا من نعماءٍ و آلاءٍ في أعمقِ أعماقي السوداءٍ حالما يبحِرُ في الدماءِ أسطولُ كبرياءٍ جامحٍ و فخرٌ سادي يطل من العلياء , و منصة تلي الإلهَ و تستعلي عما سواه , و مراسم ملكية تحوطن قدمي أينما حطت , و سماء لي وحدي تغشى الأرضَ التي سكنت و الواديَ الذي وطأت و العهدَ الذي عهدت و القسمَ الذي أقسمت و الدربَ الذي اهتديت و النجمَ الذي بغيت , و الواحدَ القهارَ الذي رهبت و البكماءَ التي عشقت
.. تمسي عبرتُها البلقانيةُ الغراءُ - ساعةَ تترقرقُ في الشفقِ الأحمرِ سفلاءَ عينَيها - مرآةً تبتثني أسرارا لاكتها نفسي و وحدةً صوفيةً أستولدها المنايا العظامَ فتبلغني في معيتها فاءَ الفردوس و راءَها , و ماضيا يفضحه بين يديها دركُ الشقاءِ و الخطايا , و حاضرا أبديا ينطق بأحرفِ أسمِها فتقع عليه وقعا غيرَ الذي عهد , و تخلع عليه رداءً من نورٍ , و رغبةً تفجر فجورا , تشطرُ العالمَ شطرا يتزاحمه أسيادُ القومِ و صعاليكُهم , و شطرا تسكنه وحدها دونَ سؤالٍ منها ولا جواب
يستحيل عبيرُ الهواء من حولها صومعةً كنخلة مريم , لما يثمل ضوءُ الأصيلِ الثاقبُ و تنكسر أشعتُه حال يطأ بكرَ الموطئ من ستار راهبتي و عينيها فترده في كبرياءٍ , ألقي أمام ناظريها بآخر دروعي و أستسلم لأنوثتِها التي أضحت تفيض من مسام بشرتها و خجلِها البتول تروض رجولتي المتفاخرةَ , و تبعث بنجمٍ من لهبٍ إلي شهوتي المضطرمةِ و رغبتي التي ما عادت ترى من نساءِ الأرضِ سواها , أخفض البصرَ في قنوعٍ بالهزيمة دونما معترك , أحني رأسي و ما قط أحنيته , ألتقط أصابعَها من على فخديها كنبتةٍ بريةٍ أسرقها فلا طالني الجزاءُ , أقبل يديها , أمص أناملَها الناعمةَ و أظفارَها الطويلةَ , تحيطني روحُها و تقطر من فؤادِها غيثا من الحنانِ و الأمومةِ الغراءِ , تملك مني كلَ مملكٍ و تسلك أنفاسُها الدافئةُ إلي قلبي كلَ مسلكٍ
تغشى جلدَها الدافئَ آياتٌ من الرحمةِ حين يشرقُ لها وجهُ الأصيلِ , فتصمت و ما لها غير ذلك , كأنها تختلف إلى أوصالها تستفتيها في أمري , فتجيبها إلى مسألتها و أنا من أمر ذلك سكيرٌ حيرانٌ قد خَلَوتُ من أمدٍ بعيدٍ بنفسي , أصحبُها في الحركةِ و السكناتِ و تصحبني , و ألتقيها قدرا قد سيق لي و صدفاتٍ , فأتكلف معرفتَها .. حين أشرع أُعَرِّفُها لها في ترفعٍ و زهاءٍ , حتى يقبل صوتُ السكونِ من ملتجأِ نحرِها , و يدوي في صدري , يستأثُر بعظامي و أشلائي و يشتمل عليّ اشتمالا , ثم لا يلبث أن يهزأَ بزهائي و يخبرني عن نفسي صدقا مريبا و حقا طالما انصرفت عنه راضيا و كارها .. نفسي كما عَلِمتها بل كما جَهِلتها , نفسي كما أذكرُها موفورَ الفخرِ أو كما غفلتها عن عمدٍ أحمقٍ و سهوٍ واهٍ , نفسي كما رأتها فتاتي ترتسمُ على وجهي , و تتثاءبُ على متضجعٍ من عشبٍ شاهقٍ , فتجزلُ لي في وصفِها الحديثَ بين حلوٍ و مرٍ , تولدها في نفقٍ طويلٍ معتمٍ أشعارا ربانيةً قضت اليومَ من البلاغةِ وترا عظيما , تُعْلِمُنِيها معلمَ فتى غضه القلمُ و القرطاسُ , و تُرِينِيها مرأى الوجهِ على صفحاتِ ماءٍ من فضةٍ , فلا تزال تصفها و تحسن وصفها , في صمتٍ لا تعرض عنه , حتى لأحسبنها قد علمت مني و فهمت عني و سمت إلي أو هوت فراسخا و فراسخا لما شرعت أخطو الفينةَ و أعدو الفينةَ فلا أبلغ منها حظَ ما بلغت مني , و لا أسابق لها الحسَ و الشعورَ قدر ما سابقت لي , و لا أخلو بنفسها على صفائِها فأبصرُها و اتخبرُها , قدرَ ما خلت بنفسي على عقدِها و أسقامِها العضالِ , فألمَّت بجنباتِها المتراميةِ و استبانت مواطنَ بأسِها و وهنِها , و جعلت تنتظم منها الحقَ و الخيرَ و الجمالَ - كالمرأة تحيي البيتَ الخربَ , فتحيل حطامَه عمارا و تستبدل بالجنانِ الركامَ
تجول عيناها في أناةٍ بعنقي وعاتقي , فتختال الجوارحُ من تحت ناظريها , و تتسابق تثب مني تهرع إلي حيث وقعت عيناها أينما وقعت , و حيث حلت منهما الزرقةُ أينما حلت , تستزيدهما و لا يبدو في الآت أيُ حظٍ من شبعٍ أو اكتفاءٍ .. أحببها كلُ متنفسٍ في , و تُيِّمَ بها كلُ خاطرٍ إذ أقبل على عجلةٍ من أمرِه يفتش عنها , فيجدها قد سدت علي المدخلَ و المخرجَ ثم لا يفقه إلا حبا لها خضما و لا يتصور لذاتي من أمر المسراتِ و الملذاتِ , بل و المبكياتِ و الضراءِ , ســواها .. قد صَحِبَتني في آمادِ الذي غمرني من المشعرِ و الإحساسِ , و الخاطرِ الذي أقبل لتوه , و تلك الربي التي ترتفعُ حينا فيروعني أمامها قصرُ باعي على ما كنت أظن له من بأسٍ و قوةٍ , و تقصرُ حينا تداعبُ قدمي حبيبتي في براءةٍ تُسقِطُ للحزنِ قلاعا و حصونا , كل بقدرٍ و ميزانٍ محسوبٍ , تسبغ عليه الخيالَ جداولا و أنهارا , و تشيعه ماثلا قبلي لا أرتابُ في أمرِه , و لا أشك برهةً , و أنَّى لي أن أفعلَ .. إن الحبَ يقينٌ , و إن لفي العشقِ - حالَ يبلغ الأوجَ و الذروةَ - لإيمانٍ و أمانٍ , إن هو تجرد منهما , فاقتلع من الحبِ اليقينَ و من اليقينِ الحبَ , غدا نزلا إنسانيا فارغا يعرض على النفس آنا , طال أم قصر , تتكلف له الترحيبَ امدا , ثم لا تلبث أن تستنكره و تستثقله حالما ينسرق منه البريقُ و تنصرف عنه الأسبابُ , فتنفر منه أشدَ النفورِ , و تحول بينها و بينه أشدَ ما يكون الحؤولُ .. كم منا اكتوى بمثلِ هذا الحب , و كم منا أفنى حياتَه اخلاصا و صدقا فيما لا طائل من إنفاق الإخلاص و الصدق فيه .. أنشأ أقول - على لسانِ حبيبتي البكماءِ - أن كاذبَ الحبِ هو من علمني صدقَه , و أنني ما كنت لأدرك لها قيمةً شقت السماءَ و مضت تتخطاها , و لا فضلا أحسب عمري و عيشي إن هما أنفقا حمدا و ثناء ما أوفيت له ذرةَ حقٍ و لا أبدا أجزلت له شكرا , ما كنت لأفعل إلا بعونِ أناسٍ تُقَّلَبُ لهم السماءُ و الأرضُ فلا تجد حسنا و لا قيمة و لا فضلا . ها هن أولاء حكمة الله و سيمفونية كونه و فطرة الخلق أولهم و آخرهم , أري الأبيض جميلا ناصعا , لا لجمالٍ مطلقٍ فيه , فما استقام إطلاقٌ إلا لله و ما شاء , بل لأني أبصرت من قبله الأسودَ الحالكَ , و حييته , و خلوت به خلوةَ السجينِ بالسجانِ , و السيدِ بالأمةِ . و لا أحسب لي في قسوةِ الليلِ الباردِ و عباءتِه الواسعةِ ظلاما و عتمةً , و أنا أطوف الطرقاتِ و قد رماني الضبابُ لا مقتبل له و لا نهاية بالمطرِ و الجراحِ و الآلامِ , أكابدُها وحدي و القومُ في مأمنٍ , أمضي لا أحفلُ و لا أبالي , "ما لمثلي من ايلامٍ" , قد عزاني سلمُ الحياةِ أترقاه , و المجدُ و العلا أبغيهما , و أصرع في سبيلهما من اجترأ اعتراضَ دربي , لا أحسب في الدجي و الليلِ الغادرِ من العزاءِ سوى فجرا هو حتما قادم , و نجما هو حتما ساطع
تستثبت زرقةَ عينيها , يهيلها شعري و قد طال كتفَي في قبحٍ بين استقامةٍ غائرةٍ و تموجٍ أشعثٍ , فإذا هي تمرر فيه أصابعَها تبغي له تنمقا و تصفيفا , فتصيب من ذلك حظا كبيرا ترضى له نفسها , و ينبسط ثغرُها عن ابتسامةٍ هادئةٍ تنذرني بثوانٍ من فراقٍ إن رُحْتُ لا آبه كيفَ أبدو للورى .. و لها , تضيق لي نفسُها الواسعة , و تستلزمني الوسامةَ لعينيها لا تكترث بما يظهر على سائر الناس من دميمِ الخلقةِ , و أنا عن هذه و تلك في أقصى المعرضِ , تتوعدني بشوقٍ تكابدنيه إذ أنا ألتذ بجمالِها و أملأ الدنيا غبطةً بلقائِها و استعلاءً بكمالِها و ضجيجَ شعرٍ غجريٍ فاحشٍ يشف فتنتَها و يصف رفقتَها , و لا ترى هي مني سوى فتا لم يؤت من فقهِ المرآةِ و الفرشاةِ شيئا , فاتنكر للتهذيبِ و التزيينِ و أبصر فضائلَهما من شمائلِ النساءِ , و الرجالِ ممن ذهبوا بما أوتوا غيرَ الذي ذهبت , و آثروا الدعةَ و النعومةَ على الحياةِ الخشنةِ الغليظةِ , التي اخترتها و اختارتني , و التي لا تكون - وقتما تكون - إلا لرجلٍ ذي بأسٍ شديدٍ , و لا تستغني - وقتما تستغني - عن امرأةٍ أمزجت فتنةً و حكمةً .. رجل مثلي .. و امرأة مثلها .... أو هكذا رَجَوت
تكل من عنادي الصبياني , و ترتئي مزاحمتي فيما خلا الجدال .. إلي إشعارٍ آخر , و تحين منها التفاتةٌ إلي الغابةِ و الأشجارِ , و قد انتصبت و اتسعت في الفضاء ما شاء لها الانتصابُ و الاتساعُ , ترقبنا إذ نتجادل - أنا في الفتنة بها , لا يفقه لي قولٌ و لا يستقيم مني منطقٌ , و هي في صمتِها تحاججني و تفحمني , و تظهر عليّ بين هذا و ذاك
تتلامسُ ركبتانا .. على استحياءٍ , نتجابهُ , تحدثني عيناها لما أسكت القدرُ لسانَها , تستنفرهما عيناي في تحدٍ سافرٍ و صبرٍ عليها اتكلفه تكليفا , و استطالةٍ لأقصرِ الآمادِ طولا , و أكثرِ الدقائقَ قصرا , إن هي مرَّت و حبيبتي عني في أبسطِ مشغلِ , أو منِّي في أهونِ نفورِ , أنظر إليها في جمودٍ لا يطرف و لا يختلج , فتجيب بجرأةٍ ما دَرَيتُ أدخيلة على أنوثتِها أم هي جزءٌ منها تبيت منقوصةً معيبةً دونه , أم علها بعثت فيها امعانا في النزالِ .. و تقبل مني التحديَ على ظلمِه و جورِه .. لكن ما هي إلا سويعاتٌ أو دقائقٌ , تتجاذب فيها العيونُ أطرافَ الهيجاءِ , و تسترسل الأنفاسُ , و تطَّرد النظراتُ , و تتسابق الأناملُ و الأوصالُ , و تقوم الدنيا و تقعد و ينحني زاهدُها و باغيها إكبارا و إجلالا , حتى يغلب فتاتي الدلالُ فتستكين , و تسلم لي بالنصرِ المبينِ .. و تضحك و تضحك معها دنياي بأسرها , و تنال مني كلَ منالِ الإعجابِ , تستملكني الكونَ أحسه في هذه اللحظة و تلك الأثناء متناثرا في رضا و خضوع على راحة كفي حين أمسحُ على رأسِها , و يروقني فيها أشد ما يروقني مجابهتُها لي في الهزلِ و كأنه جدٌ عزيزٌ , و مصاففتُها لي في الجدِ لا تزال تُزيدُني بأسا عليه , و امتيازا عنه , حتى أظفرَ منه بنصرٍ ثاغرِ الفمِ ما كنت دونها ببالغِه إلا بشقِ الأنفسِ
يقترب رأسُها من صدري , فيهتاج قلبي و تدوي دقاتُه في عنفٍ .. بيد أنها سرعان ما تعود أدراجها , و تتمنع عني فتزيدني ولعا , تتعلل بقصمةِ الظهرِ إن أحنته تطالني , و ببعدِ المسافة بيننا , تشكو ركبتينا قد عاقتا سبيلَ خديها إلى صدري , فترفقُ بي و أرفقُ بها , ألقي بساقي علي يسراها , و أتناول ساقيها فتثني ركبتيها و تجلس على قدميها , و يسير فخداها إلى يميني على مهلٍ و حياءٍ دافقٍ , نقتربُ , تبطلُ حجتُها و تُزَالُ كلُ عقبةٍ تمنعها مني و تمنعني عنها أنكرَ زوالٍ دون نعيٍ أو عناءٍ .. و ذي هي تضع رأسَها على صدري , تسكنه , و يجد ما اعتراها من شجنٍ أو فرحٍ مثولَه فوق قلبي القاسمِ , تستبين منه الدفءَ بعد البردِ , و الأمنَ بعد الخوفِ , تشاطرني أفكارَها و مشاعرَها و رؤاها , فأئتمنُ السرَ , و تضع أنوثتَها عهدةَ رجولتي , تسألني الحمايةَ من ما يوما راع أحلامَها الصغيرةَ , و الرعايةَ طالما حييت و حيت , عسى أن يكون لها مني الخليلُ و الصاحبُ و الرفيقُ , و الزوجُ و الأخ الأكبرُ , و الحبيبُ الأولُ , و تمنيني إن أصَبْتُ من ذلك حظا - و أنا له - لتبلغنني من ذاتِها و تمكنني من نفسِها ما يرضي ملاكي و شيطاني , فتسكنني ما أنعم الله عليها من سعةِ روحٍ فأغدق النعمةَ , وتمنحني ما وهبها من جمالٍ فأكرم الهبةَ , أمتلكها وحدي , و استأثرُ بها دون ندٍ أو شريكٍ , و أقسمُ بعذريتِها أن سأحميها و أحفظها , و أشركها سري و علانيتي , و أنال من الريحِ إن هي عبثت بشعرِها , و من الأرضِ إن انبعجت تحت قدميها , و من الهواءِ إن آذى عينيها , و من الخلقِ جميعا إن نزل لها أحدُهم منزلا غير الذي رضت أو نوَى , فأجتثه و آخذ سائرَ الخلقِ بجريرتِه , و أبقي فتاتي ملكةً .. على عرشٍ أنفق عمري في صنعِه و حملِه فلا تبرحه , و تروح أنفسُ تيجانِ العالمِ تشتهي رأسَها .. أو أموتُ دونَ ذلك عزيزا أبيا
تدنو مني - و ما برح رأسُها صدري قط , أقتاتُ بلذةٍ عظيمةٍ حال أشعر بنهديها الممتلئين , يطبقان على أحشائي , يرتجفان إذ يدق لهما و عليهما قلبي , يسطران عى السحابِ الرقيقِ مجدا و عمرانا , و لحظةً يبيت فيها الحبُ متعةً صوفيةً خالصةً و طورا من الفلسفةِ تضطرب به اللذةُ بين عقلٍ و شعورٍ , و فنا فريدا من العباداتِ أهرعُ به إلى الله , و يمسي جمالُها الرهبانيُ - و الليلُ يقوضُ فلولَ الضوءِ - مشكاةً تلقي بنورٍ نبويٍ أبيضٍ على جبينِ كل عاشقٍ و شفاهِ كل عاشقةٍ , لحظةً اتحد فيها جسدانا و امتزجت فيها أرواحنا فجعلت الواحدةُ تنبعُ من الأخرى أناءَ الليلِ .. و تصبُ فيها أطرافَ النهارِ , علها استحالت على أيدي محبوبتي واقعا مهيبا أوجده متى فنى , و حلما شاردا أحييه متى مات .. لحظةً عن حق أحياها فتهوى أمامها الحيواتُ
تموج الزرقةُ بعينيها , و تصمت .. تصمت .. حتى تسكن الطبيعةُ لسكنتِها , و أكاد أنصت لصمتِها , يأخذ بيدي الخشنةِ .. إلى عالمِها المتألهِ البعيدِ , و نفسِها الصافيةِ كالرمال المتحركة , و شلالٍ من عطفٍ و عزةٍ و كرامةٍ , إلى أسطورةٍ تعلو و تهبط بين الحقِ و الحبِ و العدلِ , و دراما الثورةِ , و تمردٍ يافعٍ على حالِ بلادِنا , و ما بلي من التقاليدِ و الأعرافِ , عبدها الأبُ و الولدُ , و الأمُ و البنتُ , و لا يوما طال السؤالُ منها صحةً أو صلاحا .. تنفث نارا و سخطا على أرضي و قومي , و ما آل إليه وادي النيل , و دجلة و الفرات أرض أكد و سومر , و بغداد التي ركعت , و النجف الأشرف , و مثوى الحسين , و نجد و الحجاز و لبنان الأغر , و جبال الأفغان , و سهول السوفييت , و ساحل البلقان حيث تركت عبراتِها , و الصومال اليتيم , و بيت لحم مهد من تكلم في المهد , و أورشليم , و المسجد الأقصى حال تزحف له القرودُ و تهرول , و شرايين كل بقعة من تلك الأرض و ذاك الوطن الراحل , شرقَ العالم و غربَه , إذ تمتد لها الدماءُ العفنةُ .. تسكت صرختَها من تحت الثرى , و تبترُ يديها حال تلوح من بين القضبانِ , تكبدها بسلاسلٍ من حديدٍ و نارٍ .. تعصب عينَها و تكمم لها كل فاه , فلا تعلم من سعة الأرضين غيرَ ضائقةٍ من ترهاتِ الحياةِ و سوادٍ حالكٍ يفترش الدربَ , أو علها ما عادت تبصر لنفسها دربا , و لا سبيلا , غير الذي سِيق لها , و خُطَّ في عيشِها و ضمائرَها .. و لا يزال يتجرع ابن بلدي - سليلُ الفراعنة , ناصرُ موسى و عيسى و محمدا صلى الله عليه و سلم - قسوةَ الحياةِ كئوسا و أباريقا , حارةً مرةً لا مهرب له من مشربِها علقما حتى الثمالة , و يُلهِب ظهرَه في ألفحِ الحرورِ سياطُ الحاجةِ و الدركِ الأسفلِ من العيشِ , و ينزل به الناسُ , حتى تبلغ الدنيا من حوله علوا , و هو في منأى عن ذلك يحبو إلى رزقِه النحيلِ , ثم لا يطاله فيقبع أسيرا يشتَّمُ الحياةَ من بعيد .. إن هو قامَ و انتفضَ هَوَت عليه مطارقُ الرأسماليين , و الإمبرياليةُ العالميةُ , و بغبغاواتُ الديمقراطية , تشُجُ رأسَه و تسقِطُ عيالَه بين جاهلٍ و مريضٍ , و تقتطع من قوته ديونا يجرها كالدواب و ضرائب يستنزلُها لعناتِ أهلِ الأرضِ و السماءِ , و تُعيده يسرا أو قسرا إلي طريقِه المرسومِ على خرائطها لا يحيدُ عنه , ومدارِه الثابتِ في حظيرتِها , كالثورِ حولَ الساقيةِ .. فيرتدي الهرمَ قبلَ أوانِه , و تجْمُدُ نظراتُه و تثْقُلُ أجفانُه , و يندى جبينُه لما آل إليه من أمرِ ضعفِه و هوانِه , يطوي الدربَ إلى القبرِ و ما هو بمتبرمٍ من الحياةِ و لا مستكفٍ , و لا تقوم له أحلامُه العاتيةُ ولا آمالُه العراضُ مقامَ لطمةٍ يتلقاها , أو فتاتً يتلقفه ثاغرَ الفمِ , و القلبُ لذلك كله بين أحشائِه يدمي , و يتجهم , و يبكي حالَه و كرامةً تُمتهن صباحَ مساءَ , و أعراضا تُهتَكُ في الجهرِ , و خلفَ القضبانِ , و انسانيةً تُسْلَبُ زورا و بهتانا , و ينعي ألوفَ الجماهير المستعبدةِ قد قَبَّلَت اليدَ التي تَصْفَعُها , وآثرت سلاما أجوفا تحتَ الروثِ و البصقِ , على اصطفافِها .. تطلبُ - و لو لمرةٍ واحدةٍ - حياةً حرةً كريمةً
.. و تغتربُ مني الحياةُ
تبرقُ أمام عينَيّ برهةً .. ثم تمضي إلى حيث لا تلقاني , تتبعها ظباءٌ عرجاءٌ , و أشباحٌ تلهو بين الأغصانِ , و تمتدُ بين التلالِ , تعبث بظاهرِ الأحلامِ و باطنِها , و سيوفٌ تجلدت عليها الدماءُ , تنكسرُ على صخورِ الخسرانِ , و أشباهُ أبدانٍ تستغيثُ بالقيعانِ و الجحورِ , و دموعٌ ترتجفُ في الأهدابِ , تمرر السؤالَ من نفسٍ لأخرى , و من عالمٍ لآخر , و ترسلُ أنينا رماديا إلى الضفافِ و الأمواجِ , يؤذي ملحُها جرحا غائرا من بقايا الوجوهِ .. جرى عليه الليلُ دهرا , و أدار له الشفاءُ ظهرا , و انسللت منه الدماءُ .. نهرا , تطلبُ الحياةَ من فاقديها
وتصرخُ القبورُ ..
الذئابُ تعوي بين جريدِ النخلِ , و فوقَ الأطلالِ , و كومةُ وردٍ لم يبق منه سوى الشوكِ , و أنقاضِ القصورِ .. ولائمُ أُعِدَّت , و لم تُؤكل قط , و دورٌ خالية .. و شمسٌ ما عادت تجلي الظلامَ , و ألسنةٌ تقتلعُ من حلق القططِ السوداواتِ , وشعورٌ تغدو أكواما بعد خطوطٍ , و أنصافُ دوائرٍ من ألبابِ , و سراويلٌ سوداءٌ تستر الأشلاءَ , و عينا صفراءً جحظت من الرؤوسِ , يزحفُ إليها الغبارُ في أسرابٍ .. فتَغمضُ إلي الأبدِ , و أبوابٌ من خلف الأبوابِ تُطرَقُ في العراءِ .. فلا تجدن من خلفِ الأبوابِ سامعا , و لا على عتباتِها طارقا .. سبحت فوقَ الهاماتِ أرواحٌ بلا أجسادٍ , و مشت سيقانٌ بلا أقدامٍ , و أقدامٌ بلا نعولٍ , و نعولٌ من دون الإنسانِ .. فصدت العروقُ و ما طلب الدمُ - ساعة لفظته الكهوفُ - عروقا , حين أعْوَزت الماءَ و الخمرَ
من بين براثنَ الدجى يسبحُ ملاكٌ على شعاعٍ من نورٍ , ينسابُ من السحابِ الأَسودِ , يطيرُ و يدورُ حول التراب , يَحُطُ على شجرةٍ , و بقعةٍ لم تطالها النارُ .. استبين هيئتَه فإذا هي ملامحٌ بشريةٌ , و استبين هذه الملامحَ فإذا هي ملامحُها .. البكماءُ , لا أدري من يومي هذا بردا أو حرا , و لكني أرتعش .. تشتاقُ إليها رجفاتي .. تمشي نحوي , تجر أذيالَ ردائِها ما آذته الساعةَ قطةٌ أو شبحٌ , أو خرقه رمحُ الموتِ , أهم بالركض إليها فلا يفلت الترابُ قدماي , أصرخ فلا يخرج مني صوتٌ , ألوح بيدي فترتقي الذراعَ أسودٌ في حجمِ الجرذان , و تلتف حول معصمي حشائشُ في ثقلِ الجبالِ , تهوي بالباعِ إلي الثرى , و تساقط علي رأسي قطراتُ الطين .. و بكمائي تقترب , أراها بآخرِ نقطةِ ضوءٍ في عينَي , اُسْتَطَارُ فرحا , ينتشرُ نورُها , تتطايرُ منها الأزهارُ , و ترفرفُ على عاتقَيها أبكارُ الكروانِ , و عطرُها الفضيُ يستبقها إلي منخارَي و الجنانِ , تمسح بأصابعِها على وجهي , تسبلُ على جسدي الحريرَ , تستعبد جوارحي الواهيةَ , تُرْهِبُ الأشباحَ من تحت جلدي , و تطرد الوهنَ من اجفاني .. و أكفاني , تُحَوِّطُ عظامي بذراعَيها , تزرعُ في أعماقي بذورَ الياسمين , و تفضي عليّ من روحِها , تحتضني , تسكبُ الحياةَ في عمادي , و تنفض يدي من المنايا .. و تقولُ - أسمعُ صوتَها لأولِ مرةٍ : إن الأمواتَ هم أولُ من يعرف حقيقةَ الحياةِ .. و إن لم يكن الموتُ, حبيباه, جزءا من الحياةِ لما طلب أُناسا و أمهل أُناسا , لما ذابت له عيونٌ تبصرُ , و فجعت له قلوبٌ تنبضُ , و أرواحٌ تسعى , و لما انتحبت نفوسٌ , و أطبقت سماواتٌ على عالمٍ غير الذي ترى , و زمانٍ غير الذي تعلم , و كونٍ غير الذي تدرس , و ماضٍ سحيقٍ غير الذي تذكر
أطربُ لصوتِها , يحملني من أمشاجِ العراءِ .. إلي نعيمٍ أبديٍ على صدرِها , و جنةٍ تُهْدِينِيها حالَ ألقاها , و تَسْلُبُنِيها حالَ ترحلُ .. تنتصرُ للحياةِ في يومٍ ضحاه موتٌ و أصيلُه فناءٌ , و ليلُه أحنجتُها الشاحبةُ , و نورُ جبينِها الذي غارت منه الشمسُ , وقتما شرقت في منتصفِ الليلِ
بكمائي و الموتُ بحلمٍ واحدٍ
أشعر بها تشدُ أكمامي , تتجاذبُ أصابعي .. لا استجيب .. لا أعي .. تنزعُ رأسَها من صدري .. برد ها هنا من فراقِ مخدعِها .. تهزني , تَخبِطُ على كتفَي .. يزيد سكرتي وقعُ يديها الحانيةِ .. تختفي .. ثم تعود بيدٍ مبللةٍ , تمسح بها على وجهي , تعيدني للحياةِ .. لها , دفءُ يديها ينعي برودةَ الماءِ , و برودةَ وجهي , و الحياةِ جميعهــا
أستفيــقُ
أفتحُ عينَي ..أراها .. يسطرُ الخوفُ على جبينِها شعرا و نثرا .. تزرع رأسي في صدرِها , فتدور بي الدنيا , و أطوف حول العالمِ , أسكن السحابَ .. تمسك بشعري .. تنظر إلي , تنهرني عيناها , تهرب منهما دمعةٌ , تموت على خديها قبل أن تبلغَ شفاها , ترتعش الزرقةُ في بصرِها , تسكب علي نورها .. كنت صحيحا كمن نام دهرا , عليلا كذي الأرقِ
تأتي بقربتِها , تنحني تهرقُ الماءَ على دماغي .. يمتلكني هذا الأخدودُ الغائرُ بين نهديها , و نظرتُها التي تنضح قلقا و أمومةً , و دمعةُ تمسك بها الآلهةُ .. تنفرط جداولُ الماءِ على جسدي كله , تغسل المنايا و تعيد المستقبلَ خلقا جديدا .. ثم لا تزال تسكبُها حتى تَغرق سترتي , و ينسطرُ شعري على وجهي , و تدخل منه باقاتٌ إلي فمي و آذاني , و يطفو خشاشُ الأرضِ من حولي على بركةٍ
! امسكي يديكي يا امرأة -
تعتذرُ لي بأصابعِها في برودٍ مدللٍ .. ترفع قربتَها و ما أحسبُها أبقت فيها من فيضِ الماءِ قطرةً .. ترفعُ شعري عن وجهي , تتناول قلمَها و تكتبُ , ثم تَمِدُ ذِراعَها تحلُ كراستَها مرقدَ عيني
الله ’’ ظننتك محموما , لقد رعبتني كالجحيم .. أغفو على صدرك فترحل إلي وست مينستر آبي , و أنا ها هنا قاعدة مع القاعدين ازلزل الأرض فلا أرى فيك حياة و لا أظفر منك بانتناه .. أين كنت بحق العروة الوثقى ؟ ما كنت لتتركني هنا في القفر لا آمن من بعدك جنا و لا إنسا .. من كان ليحميني و يرد طلاب عرضي و أنت مني في غفلة أهل الكهف ؟ لم أجد سوى الماء أجعل لك منه حياة .. ثم إنك لشقي ترسل عيناك إلى ما ليس لك فيه شأن .. فآثرت تأديبك و حملت نفسي على تهذيبك , و أنا في ذلك فتاة تذود عن نفسها من الناس أجمعين , و منك خاصة .. قد جعل الله لأمته من الماء خير معين ‘‘ الله
ـ ألا و قد أبصرت فيك أما عندما لم أعرف لي أما , ألا و قد راعتني منك تلك الأخوة , و خشيت منها على حبيبتي فيك , ألا و قد تعطفت يداك حين مرضتني , و حين عاقبتني , فخليق بي أن أشكرك و اثني على ما ارتسم على شفاهك من إمارات الأم و الأخت و الحبيبة , بل و أصيغ الثناء أبياتا أمطرك بها كما مطرني ماؤك .. أعجب من أمرك , و أمركن أيها النساء , أليس جسدك هذا ملكا خاصا بي ؟ أليس شعرك و عيناك و شفاهك و صدرك و أخدوده الغائر الذي زنت به عيناي فرجمتيهما , أليس كل هذا حكرا علي وحدي ؟ فلأصنع به ما شئت , و لأعبث به كيفما هويت , و لأنهل منه وقتما أردت و لأطلق سراح شهواتي تروينها متى صلتها النار بين جنباتي , أم عساك لا تفعلين فتأخذ رجولتي سبيلها إلى جسدك عسرا ؟ ثم إني لأعجب أشد العجب لقربتك هذه .. أمن آل فرعون هي ؟ ما وسعتها السماء و الأرض فجاءت تطلب الخلود على رأسي ؟! أمبشر بالجنة ماؤها لا فناء له و لا موت ؟!
يغمر الحياءُ وجهَها .. بيد أنها تمسكُ دفترَها في عنادٍ .. و تكتبُ
تنظرُ لي في اصرارٍ إذ أقرأ
الله’’ يالك من عربي متكبر , يالك من فرعون متفرعن ! أنتم هكذا يا معشر المصريين , تظنون الكون ملكا لكم , تظنون العالم يصبح و يمسي لأنكم فيه , تظنون الشمس تشرق من المشرق و تغرب من المغرب لتنير بلادكم , ثم إن فعلت تمضي تبعثر ما زاد عن حاجتكم من ضوء على سائر الأقطار , تظنون الخلق من البؤساء دونكم يحيون على هدى مشاعلكم , و يكتسون بفضلات قطنكم , و يقتاتون على فتات موائدكم , و عدس أرضكم و بصلها , و الرطب حال يسقط من نخلة الحضارة التي زرعتموها في واديكم هذا , تقسمون الناس فريقين : الإنسان المصري و الإنسان الآخر , الإنسان الآخر الذي لو آتى لكم بالشمس على يمينكم و القمر على يساركم ما استحق منكم احتفاء و لا اعجابا .. لا عجب , فالمسكين ليس مصريا , و لا يجري في عروقه دمكم الحار و لا عجرفتكم الباردة , و ليس أجداده سوى عبيد أجدادكم , أحضروهم تفضلا منهم و تكرما لأنه لا يجوز لمصري أن يخدم , لا يجوز له إلا أن يكون سيدا تقوم على شئونه و تسهر على راحته سائر الأجناس , تطلب من آلهتها و أصنامها و طواطمها رضاه , ثم إن نالته لا تحفل بغضب بعدئذ و لا سخط , حتى غضب آلهتها . و لكن وا حسرتاه ! هيهات أن ينال العبيد و الإماء رضاكم يا سادة أفلاك الكون , تجلسون في قصوركم و مقاهيكم لا تفعلون شيئا سوى الفخر بذوات أنفسكم , و سرد الأحاديث و بسط الخطب عن عظمتكم التي تتهاوى أمامها كل عظمة , و أمجادكم التي تسقط دونها كل الأمجاد , و فضلكم الذي امددتموه الي العالم البائس من حول واديكم و نيلكم و بحرينكم , شفقة منكم و عطفا , و استعلاء بمصريتكم التي تعجز عن وصفها و الثناء عليها كتب العالم , إلا ما سعاه حسن طالعه أن يسكن رفوف مكتبتكم , و يهلك لهولها كتاب العالم , إلا من رحم ربك فكان عقاديا أو قطبا أو غزاليا أو قرضاويا أو صنع الله ابراهيما أو نجيبا محفوظا
و أنت أيها المصري المتكبر لا أدري لما ساقني القدر إليك , لا أدري لما أراك فى منامي إذ أنام و في أنفاسي إذ أصحو , و في بياض النهار و نور الشمس إذ أرفع ستار نافذتي , لا أدري لما ألقيت بنفسي في أحضانك , و لا أزال أفعل كلما جال بفكري خاطر , أي خاطر , فأهرول اليك و أرتمي بين ذراعيك , و تتسابق اللذة إلي جسدي ساعة أشعر بالأمن و السكينة على صدرك المصري الشامخ , و أستند علي كتفيك العاليين , و أسكب عليهما همي و آلامي حتى أكاد أفرغ قلبي من شوائب الحزن و قطرات الشجن , و أذيب فيك كياني كله , و أصهر على شهوتك تلك متعة لي أني لمغرور مثلك أن ينالها أو يعي لها معنا , و أظل استقي من بحار رجولتك الفرعونية و أمواجها العاتية قوة و بأسا , حتى لأحسب - و الله - أنه ما عاد من شيئ يخيفني و أنا هنا أسكن أحضانك و من تحتها قلبك و أنهل من هؤلاء جميعا و منك لذة لا تدرك معناها سوى امرأة , أو رجل مرهف الحس جدا , و هذا الأخير حبيباه ليس بينك و بينه أي شبه .. لا عجب فانت ذلك المصري الذي يذهب بمجده كل مذهب , و يلهيه كبرياؤه الشاهق و بحثه المطرد عن كل لبنة يضيفها إلى بروجه المشيدة عن هذه الأشياء البسيطة التافهة , التي تترافق و تمشي يدا في يد فتصنع معنى الحياة , و هو معنى سامي لا يفقهه إلا من أوتي حظا من الرحمة و الحب , و أنصت لصوت فطرته و قلبه , و جاشت في نفسه عاطفة الإنسانية و مشاعر الإنسانية , و مآسي الإنسانية
و هنا حبيبي .. هنا فقط تتراقص عظمتي , و أشرب من نيلكم هذا القليل , بل الكثير , من شموخكم و فخركم و زهوكم , و خلود ملوككم .. أفعل على الرغم من أنفك حين تحدث به العالم عن عظمة قومك و أنعم بلدك , و تشرف على الناس من أعلى تطلب منهم أن يفرشوا أرضهم ريشا كي لا يطأ جوادك الطين
هنا فقط أعلو بهامتي .. تارة كألبينا فيسكوفيتش .. و تارة كامرأة مثلها مثل أي امرأة .. حين أروضك كما روضت أنت و أجدادك العالم كله , حين أغزو إمبراطوريتك فاكتسح جيوشك , و أدك حصونك , و تتصدع جبالك العالية أمام خيط رفيع من ذهب و دلال ألقي لك به فأوثقك , و أجعل أحركه فتشتعل نارك التي لا يطفئها سواي , و أمسكه فتستكين , و أنت في هذه و تلك تطيعني .. تطيعني .. حتى و لو كنت أنت السيد تأمر فأسمع , و تسكت فامتنع , و تشير بأصبعك فأكون في حضرتك قبل أن يرتد إليك جفن , لا أنكر .. و ما أحب إلي من أن آتيك فأجثو على ركبتي و أحوط ساقيك بذراعي و أشعر في هذا بعزة عظيمة , و أسلمك نفسي , و قلبي و روحي , و جسدي الذي تتدعي امتلاكه .. و قد صدقت
تملك جسدي .. و لكني أملك قلبك , و عقلك , و جوارحك .. على غير إرادة منك ولا اختيار .. لأني سيــدي لم أدعهما لك , بل أنت من أودعني اياهما , أيضا على غير إرادة و لا إختيار
هنا فقط أتفاخر .. مثلي في ذلك مثلك , حين أراني في روحاتك و غدواتك , و سكناتك و حركاتك , و يقظتك و شرودك .. ليتني أحمل نفسي على الرهان فاراهنك على قلبك الذي ينبض بأسمي , و ذلك الحلم الذي رأيته في غفوتك تلك التي أفقتك منها يا عاقر المسكرات .. ألم تكن تراني في منامك هذا ؟ لا أحسبك إلا منكرا يا أسير العشق .. إنها أنا يا حبيبي من تتحكم فيك , إنها أنا من تملي عليك أفعالك حين لم يفعل أحد من قبلي و لا بعدي .. يخرج منك ذلك الصوت الخشن و إن دوما أخفضته , ثم لا يتوجه لي سوى آمرا أو ناهيا , و كأنما خلا معجمك إلا من ' اعملي ' و ' لا تعملي' , تروح تتمايل أوصالك برجولتك المتسلطة , و تجتاح عروقك دماء العجرفة السادية , و الطاغوت بين جنباتك يتراقص طربا .. و لكنك عبدالرحمن لا تدرك من الحقيقة سوى زفرات .. حقيقة المرأة يا سيـدي
اءذن لي .. أن أكتب باقي حديثي في وقت آخر , إنه لمن ذلك النوع الذي قد تثور له ثائرة رجل مثلك .. يعلم الله أني أبعد ما أكون عن مضايقتك أو استثارك , و أني انأى بقلمي عن خدش ذرة من مشاعرك , و اتمنى يا إلــه قلبي و حامي عرضي لو كان لي أتراب فأملأ آذانهم و عيونهم فخرا بكرامتك و رجولتك فيما خفي عنك من أحاديث الفتيات , و أني طالما تضرعت إلى الله أن يرد إلي صوتي فلا تسمع منه آذانك و آذان من سواك إلا حمدا لله , و صلاة على رسوله .. ثم مدحا لك و ثناءا عليك , و استكبارا بك أيما استكبار , و شعرا تشهدني ليالي استكهولم الباردة إذ ألقيه و أرقص وحدي على أجراسه و قوافيه
و لكنك حبيبي يجب أن تعرف المرأة , و تحترم المرأة , و تحب المرأة .. و تكون هذه الأخيرة هي أنا من دون نساء العالم .. و أبيت - على صغر سني و حماقتي - من تعلمك ماهية المرأة و أحسبني قطعت في ذلك شوطا لا بأس به .. أترى؟ ها أنا ذي أحملك على قراءة سطوري , أحدثك عن قومك و وطنك في لهجة تحسبها سخرية و ما هي بسخرية , و ما كنت لأجرؤ .. بيد أنك تكتم ثورتك , و يمنعك حبك الجارف - حال دوما تفضحه عيناك و لسانك - من التنكيل بي , و الثأر لحرمات نفسك و أرضك .. و ها أنت ذا أميري الوسيم تنفض يديك من الدنيا دوني , و تأتي , تأخذني , تتخاطفني من نفسي , تحملني على جوادك - جوادك الذي ما يوما امتطت صهوته امرأة سواي - و تقصد بي آخر العالم .. أتراك بعد ذلك لا يتفتت قلبك عشقا .. لي و أنا البكماء ؟
ثم ليمتد إلي عطفك فتأذن لي أن يكون إذنك الأول حجة أحاججك بها إن أغضبك حديثي , و عذرا أعتذر به إليك إذا نزل منك كلامي منزلا تكره , و ذكرى أغلق دونها باب قلبي و أحتفظ بها نزلا في روحي إن يوما جفيتني .. و ما أنت بفاعل , أو عساك تفعل فيأخذ الهوى سبيله إلى جسدك عسرا ؟ ‘‘ الله
فأذِنْت لها ..
تبتسمُ , تديرُ لي ظهرَها , و تأخذُ تُرَتِّبُ أقلامَها و أوراقَها
أُشعلُ سيجارةً .. تلهو أصابعي بشعرِ فتاتي إذ يسترسلُ على ظهرِها
لم أقلقْ أبدا بشأنِ ما تكتبُ , قد عَلِمتُ في ساعتي هذه كيفَ من بيضاواتها أسائلُ ما تشعر , و أستنبئ من سطورها ما يختلجُ في أطرافِها , و أقرأ على المداد وجدَ إحساسِها و مخاضَ أفكارِها , و شتاتَ ألامِها , و أعي منها على الصحيفات ما إن كانت تشكي رزءا أو تكابد سقما , أو تباغتها في خضمِ ذلك رشفةٌ من السعادةِ فأحتضنها و أقسمُ لها أن سأجعل من هنائِها أياما و لياليا , أو أنحني أقبلُ جبينَها قبلةً أودعها فيها نفخةً من روحِ الله , و أصهرُ لها قلبي , إن كانت الأخرى
أعلمُ - إذا تسلَّطَ قلمُها و تمايل منه الدلالُ - أنها قد خرجت الحينَ من صومعتِها ترَى الشمسَ و تراني , قد فرَّت إلي فضاءِ الطبيعةِ في غفلةٍ من الدهرِ و رحمةٍ , تراقصني تحتَ السماءِ , تستودعني بوارقَ الآمالِ و أرزاءَ الحياةِ , يستحيل ما وطئت قدماها جنانا , تعصب عيناي حين تنزعُ فستانَها القرويَ و تبغي من الشاطئِ ماءً غسولا , ثم لا أزالُ كفيفا حاملا ردائَها حتي تصفق فآتيها به , و أكابدُ في سبيل ذلك من السقطاتِ و العثراتِ ما يضحكُ البلابلَ و العصافيرَ , لا تتسلل عيناي من تحت العصابِ حتى يزمجرُ من حولها الماءُ , فأعود كما كنت و ما أقربَ إلى نفسي و أحبَ إلى قلبي من مداعبتِها و ملاطفتِها , حين ألمحُ ابتسامةً هادئةً , أو ضحكةً خافتةً أو نبضةً مشرقةً , تختالُ وراءَ كلماتِها و تشرقُ من بين سطورِها , تزرع الغابةَ من حولي فلا و ياسمينا
أطفقُ أتأملُ كتابَها .. أبصره مدحا سائغا في أبياتِ هجاءٍ , و هجاءً لاذعا في بحرٍ من مدحٍ . و على البعضِ من المغالطاتِ التاريخيةِ أحسبُ حديثَها - عني و عن قومي - لم يخطئْ و لم يذِلْ .. غير أني اعتدت السكوتَ حينما تنشغلُ في أدواتِها تكتبني , فلا أردُ على بعضِ حديثِها من دونِ البعضِ , كان لذلك عندي حرمةٌ حصينةٌ , و عفةٌ و خطٌ أحمرٌ سطرتَه لنفسي لا أتعداه و لا أجور عليه , و لا يتجاوز منه كائنٌ قيدَ أنملةٍ , ذلك - إن سلبها القدرُ نعمةَ النطقِ - فلست بسالبِها اليوم حرمةَ من يتحدثْ فيُنْصَتُ له , و حقَ من يتكلم فلا يُقَاطعه في دولتي قاطعٌ , و ما كنت أبدَ الدهرِ لأناصرَ جانبا عاداها , و لا قضاءً جارَ عليها و سارَ ببعضِ آلامِها إلى بعضٍ
كما اعتدت أن أشاطرَها الكتابةَ , فأغدو أبكما أنا الآخر , بأسا أمامَ الدهرِ و إن قسى , و صمودا في وجهِ الحياةِ و إن اكفهر , و إمعانا في السخريةِ من القدرِ , و استنزالا لآياتِ السماءِ تُرِي فتاتي - و تُرِيني من قبلِها - أنه ما من شيئ كان ليتغيرْ إن جادَ لسانُها بالأحرفِ و الكلماتِ , فأحرر حديثي مثلما تحرر حديثَها , و أخط كلامي كما تخط كلامَها , و أشعر بين هذا و ذاك بسموٍ بالغٍ , و مجدٍ شاهقٍ , و لذةٍ تذيقني النصرَ على الحياةِ - في أحلكِ سوادِها - و القدرِ - في أقسى آيادِه - أنهارا من عسلٍ , ثم أُكَافأ من عذرائي برشفةِ زرقةٍ من عينِها , أو لمسةٍ حانيةٍ , أو قبلةٍ تَلثمُها على خدي , فلا غابت عني بعد اليوم شمسٌ
و تخرجُ من يدينا على هذا النحو مئاتُ الصفحاتِ تفيضُ غزلا و حبا و ثورةً و تمردا , تعِجُ بها أدراجي و أدراجُها , و مدادُ أقلامِنا على البيضاواتِ لا تسعه الأرضُ فخرا و طربا
.. و هكذا ننفق الوقتَ في كتابٍ نقرأه و أخرٍ نكتبه , أو آيةٍ في الكونِ و الكتابِ نتدبرها آنا و نتأولها آنا , أو شعرٍ نتبارى في نظمِه , أو حديثٍ يصمت حينا و يصرخ حينا , أو مشهدٍ تطارده عينانا , أو نكتةٍ من قاموسِ المقاهي نضحك لها , أو ثمرةٍ نتقاسمها فتأخذها من بين أسناني و أعود ألتقطها من على شفاهِها , أو شكوى تأنُها فأضمُها إلى صدري و تستكين , أو رشفةٍ من ماضٍ أليمٍ تكوينا فأمسحُ على رأسِها , أو عبرةٍ تتنهدُ في عينِها فتندي بها أناملي , أو قبلةٍ اتخاطفها من بياضِ وجهِها و صدرِها , فتجاريني حينا و يغالبها الحياءُ أحايينَ
آخذ بذقنِها ناحيتي , أنظر لها , لقطعةٍ من السماءِ في عينيها , لآياتِ الله على وجهِها , و قرائنَ الإبداعِ , لشعرِها الذهبي السابحِ .. يمدُ جسرا إلى الأحلام , لعنفوانِ نهديها يكادُ يفتك بردائِها , للملائكةِ التي تبني بيوتا من لحمٍ حولَ خصرِها , لحياتي تشرق على جبينِها , لقضاياي التي غدت قضاياها .. يهفو إلي مسكُ الأنبياءِ و أطيافُ من نورِها تلهو بي , ما دريت اليومَ إن أنا حقا أملكُ الأرضَ مُلكا طاغيا أم أنا في صومعتِها خاطرٌ يعبر و خيالٌ يسري , أو حلمٌ يداعب الدماءَ في حقولِ الصرعى و ميادينِ القتالِ . هي .. قصيدةٌ تقطر حبا و براءة و تفاؤلا , هي شمسٌ تسطع حسنا و بهاءً , وردةٌ من الجنةِ و وحيٌ إلهيٌ معصومٌ , و رجفاتٌ في حضنِ النهرِ , هي إكليلٌ زهرٍ على قبورِ المناضلين و شموعٌ شقراءٌ لا تنطفئ
في قلبي و خاطري و عالمي هي .. البكماء