وآه يا بــلــد


عجيب أمر الغربة حين تنقر الأبواب في لحظات تبدو للكثير عابرة و ما هي بعابرة. لا نلبث نطبق أكفافَنا على شيئ حتى نحن إليه , و لغيره كذلك , بدراية أو دون دراية , الأمر في أدناه و أقصاه سيان. تنظر حولك مرة .. ثم تنظر الأخرى .. تجد الغربة في كل واد , غرباء يناطحون غرباء , و الكل على غربته في حنين دائم لا يفنى. الله
فالحياة - حال تطرق أعز أبوابها - تقع حانية مشتاقة تارة في خضوع , و تارة في تكبر و خيلاء , و كأنها تابى على نفسها شهقة من رحمة , أو غشاوة حسن تغازل ما انبغى لها من غدر و اكتلاب و صراع , سميناه أمس الصراع من أجل البقاء , و عدنا نسميه اليوم صراع الحضارات أو صراع الأديان. الله

ثم مضينا نحمل غربتَنا على راحة اليد اليسرى , و حنينَنا على راحة اليد اليمنى , و نشطر القلب لهذه و تلك. في سرائنا سرعان ما نلوح باليمنى , و تظفو الطفولة على السطح تطلب إلى الحياة مزيدا من هذا الذي طال حنينا إليه , و نحن في ذلك ننسى بداهة ما حوت يدُنا الأخرى , نبتر هذه اليد إن استدعى الأمر , فالسعادة ليست بقدر جمالها كالحنين إلى السعادة , و أنت حالما تنظر لأوقات فرحك , لصورة وجهك في المرآة حين تبتسم , قد لا تجد غاية طليقة للسعادة مجردة من حنينك لها , و سعيك نحوها , الذي تلتذ به في بعض الأحيان أكثر من الوجهة ذاتها و الفرح ذاته , و لكنك حتما ستجد نفسك سعيدا لا لشيئ إلا لأنك سعيد , سعيدا بسعادتك يا أخي. حتَّمت طبائعُ الأشياء ألا يكون الفرح غاية بذاته , وإلا لتصدعت أبنية الحياة و لامتناهية الحياة في بصائرنا اللامتناهية بدورها , بل يغدو وسيلة إلى فرح آخر تشتاق إليه في سرائك , تماما كما تشتاق إليه في ضرائك. الرغبة أن تكون سعيدا هي ما يشيع في السعادة ماهيتها , ماهيتها النسبية , أو ماهيتها المطلقة إن قُدر لنا في يوم ما أن ندرك أمرا كما هو , دون اختزال أو إسهاب , بمنأى عن شطحات الفلاسفة و ترهات الإبيستمولوجيين. إن المرء لا يكاد يصنع لنفسه ظلا حتى يتهافت على إلقاء ما استطاع منه لدقيقة فرح أو ضحكة من قلبه , ثم هو حين يبلغها لا يعبأ إن كانت ما ظن بادئ ذي بدء , أم هي لبنة من حسه و خياله أقام منها كوخا في الجنة. كل ما يعلم من أمر تلك السعادة أينما حطت و وقتما حلت أنه لطالما اشتاق إليها , و سعى مضحيا بالتافه و النفيس. الله

غير أن الآية تقلب رأسا على عقب حين نكابد أرزاءَ الحياة و الضراءَ , و إن بقت الوجهةُ ذاتُها لا تتغير , و الحنينُ لا يتبدل. فالغربة لا تشترط قتل الشوق , كلاهما جزء من الآخر , ينبع منه و يصب فيه , يكسوه و يرتديه , و لكن أحدهما لا يظهر وقت استبداد الآخر , و هذه هي الغربه , بيد أن الآخر هذا لا يستلهم كينونتَه و يصلُب بنيانَه إلا حين يستبد الأولُ , و ذاك هو الحنين , في الغربة أنت لا تلوح بيسراك , و إن إرتقتك على غير إرادة منك , و كذلك أنت لا تزال تذكر يدك الأخرى , عزاءَك الوحيد , و علة غربتك. الله

علاقة رباعية يا ابن أبي .. الله
تطالعك الحياة أولا .. ثم الغربة , التي تحمل في ثناياها باكورة الحياة , و استمراريتها في بعض الأحيان , و بطبيعة الحال لحدَها .. ثم تخطو فتُسْلِمُك غربتُك إلى الشوق دون يد لك في هذا .. ثم تعدو فتبلغ السعادةَ. في الواقع لا تبلغها إلا بقدر ما تقدِّم يمناك التي تتشبث بالشوق , على يسراك التي تتشبع بالغربة. الله

و آه يا بــلــد .. الله

No comments: